يتناول الشاعر والمفكر المكسيكي الشهير أوكتافيو باث في كتابه اللافت «الشعر ونهايات القرن» مأزق الشعر والتحديات التي تواجهه في الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حيث فقدت فكرة الحداثة بريقها السابق ولم يعد المستقبل بالضرورة أكثر جمالا وسحرا من الماضي. ومرد ذلك بالتأكيد هو انعدام الثقة بالغد وبمآل هذه الكرة البائسة التي لا يعرف أحد متى تنفجر بمن فيها، بعد أن أصبحت مفخخة بترسانة غير مسبوقة من أسلحة الدمار الشامل. صحيح أن الأسلحة النووية لم تدمر العالم بعد ولكنها دمرت، وفق باث، فكرتنا عن العالم ولم نعد نعرف إذا ما كنا نعيش فجر الزمن أم غروبه الأخير. ولم تكن المناداة بفكرة ما بعد الحداثة سوى نوع من الهروب إلى الأمام بالنسبة للبشر القانطين والمقيمين في كنف التوتر الدائم والخوف على المصير. هكذا يجد الشعر نفسه، وللمرة الأولى طيلة تاريخه، أمام مأزق خطير يتعلق بوظيفته وعلة وجوده. فالبشر المشيحون بوجوههم عن الماضي وغير المطمئنين للمستقبل لم يعودوا يثقون إلا بما هو راهن وملموس ومرئي أمام الأعين، بما يفضي إلى نتيجتين بالغتي السوء في رأي الكاتب: إما الانصراف عن الشعر بالمطلق بوصفه فنا بلا طائل وغير ذي جدوى، وإما تحول هذا الفن إلى ساحة واسعة للفوضى والتسيب والتشظي الجمالي والتعبيري. وما انصراف الكثرة من الناس عن الشعر سوى التعبير الملموس عن تراجع دوره وانعدام الثقة به. غير أن باث، الناقد والشاعر والمثقف الموسوعي، لا يرى في أزمة الشعر الحالية ما يوجب اليأس من وضعه والخوف على بقائه. فالشعر هو فن مأزوم بامتياز. وقد كان دائما محلا للتنازع والصراع وسوء الفهم. لا بل إن غياب التأزم عن واقع الشعر هو الأزمة بحد ذاتها. وحيث يبطل الصراع بين القديم والجديد، بين السائد والمغاير، يقع الشعر في المراوحة والتنميط والاستنقاع. والرهان وفق باث هو دائما على النخبة المولعة بهذا الفن التي ما تلبث أن تتزايد مع الزمن. صحيح أن من قرأوا بودلير ولوتريامون ورامبو وفاليري في طبعات كتبهم الأولى لم يتجاوز عددهم المئات في أفضل الأحوال، ولكن الصحيح أيضا أن هؤلاء القراء كانوا يتزايدون باطراد عاما بعد عام، وأن كتب الكبار من الشعراء باتت تصدر في طبعات جديدة على امتداد الزمن. وباث يطلق على الأقلية التي تقرأ الشعر وتحتفي به اسم «الأقلية الهائلة» باعتبارها عرضة للتكاثر والتنامي والتاثير العميق في من يعقبها من القراء. إلا أن باث يقف حائرا إزاء تكاثر عدد الشعراء وقارضي الشعر الذين يبلغ عددهم في أميركا وحدها أربعين مليونا، بينما الدواوين المطبوعة تظل في أدراج دور النشر ولا تجد من يقتنيها. والمؤلف يخلص إلى استنتاج طريف مفاده أن الشعراء لا يقرأ بعضهم البعض الآخر إلا في ما ندر. وإذا كان هذا هو حال الشعر في الغرب فكيف هو الحال في العالم العربي حيث القراءة، وقراءة الشعر على وجه الخصوص نادرة وشبه معدومة وكيف لنا أن نفسر انتشار الشعراء وتكاثرهم كالفطر بين المحيط والخليج، في حين أن النسخ الألف التي يطبعها الشعراء المرموقون من دواوينهم يحتاج نفادها إلى أكثر من عقدين من الزمن؟. ألا يعني ذلك فيما يعنيه بأن الشعراء العرب، عدا قلة قليلة، لا يهتمون بقراءة سواهم ولا باقتناء مجموعاتهم وإصداراتهم الجديدة. وسواء تعلق الأمر بالغيرة والتحاسد أو بعدم أخذ بعضهم على محمل الجد فإن النتيجة في الحالين كارثية ومحزنة ومثيرة للدهشة والاستغراب.